تاريخ دولة المرابطين معركة الزلاقة الخالدة Battle of Sagrajas

تاريخ دولة المرابطين معركة الزلاقة الخالدة Battle of Sagrajas أرسل يوسف بن تاشفين مع وفد الأندلس رسالة إلى المعتمد بن عباد يطلب منه تسليمه الجزير ال
24 min read

أرسل يوسف بن تاشفين مع وفد الأندلس رسالة إلى المعتمد بن عباد يطلب منه تسليمه الجزير الخضراء (طريف) لتكون محطة لجيوش المرابطين التى ستعبر لقتال ألفونسو.

وبعد موافقة المُعْتَمِد تجهَّز يوسف لتلبية نداء إخوانه فى العقيدة راغبًا فى الأجر والمثوبة من الله بتأدية فريضة الجهاد، وكتب أمانًا لأهل الأَنْدَلُس ألا يتعرض لأحد منهم فى بلده وقال:

«أنا أول مُنتَدَبٍ لنصرة هذا الدِّين, لا يتولى الأمر أحد إلا أنا بنفسي»

وأعلن النفير العام فى قوات المرابطين، فأقبلت من مراكش, ومن الصحراء وبلاد الزاب, ومن مختلف نواحى المغرب يتوافدون على قيادتهم الربَّانية، وجهزت السفن لتحمل هذه القوات، وكان أول من نفَّذ أمر العبور قائد المرابطين النابغ داود ابن عائشة, وتمركز فى الجزيرة الخضراء، وتتابعت كتائب المرابطين، وكانت معهم الجمال الكثيرة، وقد أثار وجودها دهشة الأَنْدَلُسيين، لأنَّهم لم يكونوا يعرفونها من قبل، وقد أثَّر وجودها على الخيل فأخذت تجمح لدى رؤيتها.

ولما تكامل الجيش المرابطى بساحل الجزيرة الخضراء, ركب الأمير يوسف ومعه قادة من خيرة قادة المرابطين وصلحائهم، ولمَّا ركب واستوى على السفينة رفع يديه نحو السماء مناجيًا:

«اللهم إن كنت تعلم أن جوازنا هذا إصلاح للمُسْلِمِين فسهِّل علينا هذا البحر حتى نعبره، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا نجوزه»

وسهل الله عبورهم، وكان ذلك يوم الخميس بعد الزوال منتصف ربيع الأول 479هـ حزيران 1086م، وصلى الأمير يوسف بالجزيرة الخضراء صلاة الظهر، وقام أهل الجزيرة بضيافة المرابطين، وظهر فرحهم وسرورهم على وجوههم، وبدأ الأمير يوسف فى تحصين الجزيرة الخضراء، ورمَّم أسوارها وما تصدَّع من أبراجها، وشحنها بالأسلحة والأطعمة وكلف مجموعة من جنوده بحراستها ثم ساروا نحو إشبيلية.

سارع المُعْتَمِد مع قادة قومه وشيوخ مدينته وفقهاء بلاده لاستقبال أمير المرابطين، ولما التقى بيوسف تعانقا طويلاً بمودة وحب وإخلاص وأخوة فى الدِّين، وتذاكرا نعم الله عليهما، وتواصيا بالصبر والجهاد فى سبيل نصرة دين المُسْلِمِين، وكان المُعْتَمِد مُحمَّلاً بالهدايا، وأصدر أوامره لعمال البلاد بجلب الأرزاق لضيافة الجيش المرابطي، وكان المُعْتَمِد كريمًا وجوادًا باذلاً للخير.

واستعرض المُعْتَمِد الجيش المرابطى فرأى «عسكرًا نقيًا ومنظرًا بهيًا»

وواصل الأمير يوسف سيره نحو إشبيلية حيث كان يستقبل بالترحاب مع جيشه المرابطى على امتداد الطريق حتى وصل حاضرة المُعْتَمِد، فأقام بها ثلاثة أيام للاستراحة, ثم قال للمُعْتَمِد: «إنما جئت ناويًا جهاد العدو حيثما كان توجهت»

وأثناء مقام الأمير يوسف فى إشبيلية بعث الأمير يوسف إلى ملوك الأَنْدَلُس يستنفرهم للجهاد ، فكان أول من لبى الدعوة :

سسسسسس

عبد الله بن بلقين الصنهاجى صاحب غرناطة الذى خرج إليه بأمواله ورجاله،

وأخوه تميم صاحب مالقة،

وأرسل ابن صمادح ابنه معز الدولة فى فرقة من جيشه,

وسار الأمير الربَّانى والقائد الميدانى نحو بطليوس، فاستقبلهم صاحبها المُتَوَكِّل بن الأفطس على ثلاث مراحل من المدينة), وقدَّم لهم الهدايا والضيافة وعلف الدواب وظهر منه جود وكرم، وأقام الأمير أيامًا عدة حتى يصل باقى المتطوعين إلا أن أكثرهم لم يصل لانشغالهم بمدافعة النصارى، فتابع سيره الجهادى حتى حطَّ رحاله عند سهل الزِّلاقَة , وكان يبعد عن بطليوس ثمانية أميال.

ونظَّم يوسف بن تاشفين جيشه، فجعل الأَنْدَلُسيين جيشًا, مستقلاً بذاته وأسند قيادته إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد الذى تولى المقدمة، وأسندت الميمنة إلى المُتَوَكِّل بن الأفطس، وجعل أهل شرق الأَنْدَلُس على الميسرة، وباقى أهل الأَنْدَلُس فى الساقة.

أمَّا الجيش المرابطى فتولى داود ابن عائشة قيادة فرسانه، وأما سير بن أبى بكر فتولى قيادة الحشم، وبقية المرابطين مع حرس الأمير يوسف بن تاشفين إلى جانب قيادته الجيش الإسلامي، وعسكر المرابطون خلف الأَنْدَلُسيين تفصل بينهم ربوة بقصد التمويه، وكان تعداد جيش المرابطين والأَنْدَلُسيين أكثر من 24 ألف جندي (*8) وتضاربت الروايات فى ذلك.

وكان ألفونسو مشغولاً بمحاصرة سَرْقُسْطَة, ولما وصله الخبر السعيد ارتبك وجزع، وطلب من المستعين بن هود حاكم سَرْقُسْطَة أن يدفع له مالاً مقابل فك الحصار، فامتنع ابن هود لما عَلِمَه من وصول المرابطين وقرَّر ألا يساعد ألفونسو بأى مال يستعين به على قتال المُسْلِمِين.

واضطرَّ ألفونسو لرفع الحصار، ورجع مسرعًا إلى طُلَيْطِلَة، وأعلن الاستنفار العام، وحل نزاعه وخلافه مع بعض أمراء النصارى، وأرسل إلى مَن وراء جبال ألبرتات فأتته أفواج عديدة من النصارى متطوعة من أجل الحرب المُقدَّسة، وجند الفونسو كل مَن يستطيع حمل السلاح صغيرًا أو كبيرًا، ونظَّم جيشه وقسمه إلى قسمين كبيرين : أسند قيادة الجيش الأول إلى ابن عمه الكونت غرسيا ورودريك، وما لبث غرسيا أن انسحب قبل بدء المعركة أثر خلاف مع ألفونسو الذى أبقى رودريك فى القيادة، واحتفظ بقيادة الجيش الثانى وعيَّن على جناحيه سانتشور أميرز والكونت برنجار ريموند, وتولَّى هو القلب, «وكان جيش ألفونسو يعتمد على الفرسان كمجموعة, وكان الفارس يلبس الزرد والدروع التى تغطيه من الرأس إلى القدم كأنَّه حصن من الحديد يتحرك لتزداد شجاعته وجرأته».

ولما استعرض جيشه نفخ فيه الشيطان غروره وكبرياءه، وقال قولة تدل على تجذر كفره وعتوه وفساد معتقده حيث قال: «بهذا الجيش ألقى مُحَمَّدا وآل مُحَمَّد والأنس والجن والملائكة»

«وكانت جموع الرهبان والقسيسين أمام جيش ألفونسو الملعون يرفعون الإنجيل والصلبان لإذكاء الحماس الدِّينى فى نفوس الجنود الذين بلغ عددهم أكثر من ستين ألفًا»

سسسسسسسس

وخرج ألفونسو بجيشه نحو بطليوس، وكتب إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد كتابًا جاء فيه: «إن صاحبكم يوسف قد تعنَّى من بلاده وخاض البحار، وأنا أكفيه العناء فيما بقى, ولا أكلفكم تعبًا، وأمضى إليكم وألقاكم فى بلادكم رفقًا بكم وتوفيرًا عليكم»

وقصد ألفونسو بذلك أن تكون المعركة خارج بلاده فإذا انهزم ولحقوا به يكون مسيرهم فى أرضهم ولابد من الاستعداد لاكتساح بلاده، وبذلك تنجو من التدمير، وإذا انتصر حدث ذلك فى أرض أعدائه.

وصل ألفونسو إلى بطحاء الزِّلاقَة وخيم على بعد ثلاثة أميال من الجيش المسلم يفصل بينهما نهر بطليوس يشرب منه المتحاربون.

لقد انزعج ألفونسو من مجيء المرابطين انزعاجًا كبيرًا, حيث شعر بعودة الروح المعنوية إلى أهالى الأَنْدَلُس الذين كان يسومهم سوء العذاب، يُقتِّل رجالهم ويسبى نساءهم، ويأخذ منهم الجزية، ويحتقرهم ويزدريهم، ويتلاعب بمصيرهم, وينتظر الفرصة لاستئصالهم من الأَنْدَلُس، لتعم النصرانية فى سائر البلاد، ويرتفع الصليب على أعناق العباد، وإذا بالمرابطين يربكون مخططاته ويبددون أحلامه.

لذلك أراد ألفونسو أن يوجِّه ضربة قاصمة لمن كان السبب فى استدعاء المرابطين وخصوصًا للفارس المغوار المُعْتَمِد بن عَبَّاد وقرينه المُتَوَكِّل بن الأفطس، وكان يرى أن نصره يعتمد على تكبيل القوة الدَّاخلِيَّة فى الأَنْدَلُس بالهزائم المتتالية والمتلاحقة.

أما المرابطون بعد ذلك سيرجعون إلى وطنهم الأصلى المغرب، وبالقضاء على الأَنْدَلُس يسهل القضاء على المرابطين بسبب جهلهم بالطبيعة الجغرافية للبلاد.

ومما ساعد ألفونسو على أن يعيش فى تلك الأحلام فتور معظم أهل الأَنْدَلُس بسبب ترفهم ونعيمهم وجبنهم وحبهم للحياة وهروبهم من الشهادة، كما أن أسباب الهزيمة نخرت فى ذلك المجتمع المتهالك.

أما المُعْتَمِد بن عَبَّاد صاحب إشبيلية والمُتَوَكِّل بن الأفطس صاحب بطليوس فقد قررا امتشاق الحسام، فمَن ظفر عاش سعيدًا ومَن مات كان شهيدًا.

وأما المرابطون الذين تربوا على تعاليم الإسلام وأصول أهل السنة والجَماعَة ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بعد تربية عميقة، وتكوين فريد وإيمان راسخ ساهم علماء وفقهاء المالكية فى ذلك، وعلى رأسهم الفقيد الشهيد ابن ياسين, فقد مروا بمراحل صقلتهم وحروب زكتهم، وأصبحوا متشوِّقين إلى الاستشهاد معتمدين على رب العباد, آخذين بأسباب النصر المعنوية والمادية.

وكان رأى المرابطين إن المعركة فى الأَنْدَلُس مصيرية للأمة الإسلاميَّة وبذلك لا يمكن الاعتماد على شعب مهزوم وقع فى أسر المعاصى والذنوب.

وكما أن انتصارهم فى الأَنْدَلُس يرعب أعداءهم وخصومهم فى المغرب ويتم بنصرهم إنقاذ الإسلام والحضارة فى ذلك البلد البعيد عن العالم الإسلامي.

كان ألفونسو يقود حربًا صليبية شرسة ضد المُسْلِمِين، ودعمته الكنيسة فى روما بالجنود والعتاد والأموال، ورغبت بلدان الإفرنجة بالوقوف مع ألفونسو فى حربه المقدسة ضد المُسْلِمِين.

إن الجانب المادى عند النصارى كان أعلى بكثير مما عند المرابطين، ولكنَّ الجانب المعنوى عند المرابطين لا حدود له.

وأرسل يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو كتابًا يعرض عليه الدخول فى الإسلام أو دفع الجزية أو الحرب، ومما جاء فى كتاب الأمير: «بلغنا يا أذفونش أنَّك نحوت الاجتماع بنا, وتمنيَّت أن تكون لك فُلْكٌ تعبر البحر عليها إلينا، فقد جزناه إليك، وجمع الله فى هذه العرصة بيننا وبينك، وترى عاقبة ادعائك (وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال)»

ولما قرأ ألفونسو الكتاب زاد غضبه وذهب بعقله وقال : «أبمثل هذا يخاطبنى وأنا وأبى نغرم الجزية لأهل ملته منذ ثمانين سنة؟»

وقال لرسول الأمير يوسف : «قُل للأمير لا تتعب نفسك أنا أصل إليك»، وإنَّنا سنلتقى فى ساحة المعركة, ومعنى ذلك أن ألفونسو اختار الحرب، وحاول ألفونسو حامى حمى النصرانية فى إسبانيا أن يخدع المُسْلِمِين ويمكر بهم، فكتب إلى الأمير يوسف فى تحديد يوم المعركة فكتب إليه : «إن بعد غد الجمعة لا نحب مقابلتكم فيه لأنَّه عيدكم، وبعده السبت يوم عيد اليهود، وهم كثير فى محلتنا، وبعده الأحد عيدنا، فنحترم هذه الأعياد، ويكون اللقاء يوم الاثنين»

فكان جواب الأمير يوسف: «اتركوا اللعين وما أحب»

فاعترض المُعْتَمِد وقال للأمير يوسف: «إنها حيلة منه وخديعة إنَّما يريد غدرنا فلا تطمئن إليه، وقصده الفتك بنا يوم الجمعة فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النَّهار»

كان الجيش الإسلامي قد انقسم إلى ثلاث فرق رئيسة:

الأولى: فرقة الأندلسيين

وتضم الجيش الأندلسي وعلى رأسه المعتمد بن عباد ومعه ملوك الأندلس؛ ابن صمادح صاحب ألمرية، وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، وابن مسلمة صاحب الثغر الأعلى، وابن ذي النون، وابن الأفطس.. وغيرهم، وقد أمرهم يوسف أن يكونوا مع المعتمد

كان المعتمد في القلب والمتوكل بن الأفطس في ميمنتها، وأهل شرق الأندلس في ميسرتها، وسائر أهل الأندلس الآخرين في مؤخرة هذه الفرقة.

وقد اختار المعتمد أن يكون في المقدمة وأول مَنْ يصادم الجيش الصليبي.

يُريد بذلك أن يغسل عار السنين السابقة وما رآه من ذل وهوان، أو لعله كان يُريد أن يحوز القدر الأعلى من النصر إن تم؛ فيُنسب الأمر له، والله أعلم بالنوايا.

وقيل في روايات أخرى بأن يوسف بن تاشفين خشي ألا يثبت المعتمد بن عباد، وألا يبذل جهده في الحرب، فكان وضعه في المقدمة بطلب من يوسف بن تاشفين.

الثانية : فرقة من جيش المرابطين

وعلى رأسهم البطل المرابطي الكبير داود ابن عائشة، وكانت هذه الفرقة خلف الجيش الأندلسي.

الفرقة الثالثة : جيش المرابطين الرئيسي بقيادة يوسف بن تاشفين يختفي خلف أحد التلال على مسافة من الجيش، بحيث لا يُرى هذا الجيش، فيُظَنُّ أن كل جيش المسلمين هو الفرقتان الأوليان: جيش الأندلسيين وجيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة.

وقد أراد يوسف بن تاشفين من وراء ذلك أن تحتدم الموقعة فتُنْهك قوى الطرفين حتى لا يستطيعا القتال، وكما يحدث في سباق الماراثون فيقوم هو ويتدخَّل بجيشه ليَعدل الكِفَّة لصالح صفِّ المسلمين.

واستعد المُسْلِمُون لرصد تحركات النصارى وكان حدس المُعْتَمِد صائبًا صحيحًا, ورصدوا تحرك العدو نحوهم.

وانقض الجيش الذى يقوده رودريك بمنتهى العنف على معسكر المُسْلِمِين من الأَنْدَلُسيين.

ومالوا على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد –وجيشه الأندلسي- صبرًا لم يُعهد مثله لأحد،الذين أرسلهم يوسف ابن تاشفين على عجل لدعم الأَنْدَلُسيين،ثم ما هو إلا أن انضم إليه القسم الأول - الذين أرسلهم يوسف ابن تاشفين على عجل - من جيش المرابطين وقائده داود ابن عائشة، وكان بطلاً شهمًا فنَفَّس بمجيئه عن ابن عباد.

وتصدَّى فرسان المرابطين الذين يقودهم داود ابن عائشة و معهم ابن عباد وفرقته وصمدوا أمام هجوم النصارى، واضطر النصارى إلى الارتداد إلى خط دفاعهم الثانى وظهرت من داود ابن عائشة وجنوده كفاءة قتالية لم يعرف لها مثيل، واختار الله من المرابطين شهداء، واحتدم الصراع، وزحف ألفونسو ببقية جيشه، وأقرن زحفه بصياح هائل أفزع قلوب الأَنْدَلُسيين قبل خوضهم المعركة، ولاذوا بالفرار ووجدوا أنفسهم أمام أسوار بطليوس للاحتماء بها، ولم يصمد منهم إلا فارس الأَنْدَلُسيين وقومه «المُعْتَمِد بن عَبَّاد وأهل إشبيلية» وأبلى بلاءً عظيمًا وعقرت تحته ثلاثة أفراس، وأصيب بجروح بليغة، وكان يهتف:

ابَا هَاشِمٍ هَشَّمَتْنِي الشِّفَارُ فَلِلَّهِ صَبْرِي لِذَاكَ الأُوَارُ ذَكَرْتُ شَخِيصَكَ تَحْتَ الْعَجَاجِ فَلَمْ يُثْنِنِي ذِكْرُهُ لِلْفِرَارِ

واستمرت المعركة الرهيبة، وصمد المُعْتَمِد مع داود ابن عائشة حتى فلت السيوف، وتكسرت الرماح, وصبر المُسْلِمُون فى المعركة صبرًا عظيمًا سجل فى صفحات المجد والعزة والكرامة فى تاريخنا المجيد.

وبدأت قوة المُسْلِمِين تضعف وتتقهقر أمام ضربات النصارى الحاقدة، وأيقن ألفونسو ببلوغ النصر مُعتَقِدًا إن هذه هى قوة المُسْلِمِين المقاتلة التى ظهر الإعياء عليها، وأخذت موقف المدافعة، وهنا بدأ تحرك الجيش المرابطي الثاني وذلك بعد أن كانت قد أُنهكت قوى الطرفين من المسلمين والنصارى، وبعد طول صبر وهم في كامل قوتهم، فيحاصرون الجيش النصراني.

لم يستغرق ألفونسو طويلاً فى أحلامه حتى وثب جيش من المرابطين إلى ميدان المعركة أرسله الأمير يوسف بقيادة سير بن أبى بكر على رأس الحشم لمساندة القوات الإسلاميَّة، فتقوَّت بذلك معنوياتهم فى معركة مالت إلى هزيمتهم، وزحف الأمير يوسف بحرسه المرابطي، وقام بعملية التفاف سريعة باغت فيها معسكر العدو من الخلف، ووصل إلى خيامه وأحرقها وأباد حراسها، ولم ينج منهم إلا القليل، وكانت طبول المرابطين تدق بعنف فترتج منها الأرض، ورغاء الجمال يتصاعد إلى السماء فبث الذعر فى نفوس الأعداء وهلعت قلوبهم

وذهل ألفونسو عندما رأى بعض حرس معسكره فارِّين، وأتته الأخبار من داخل المعسكر باستيلاء المرابطين عليه، وأنَّه خسر حوالى عشرة آلاف قتيل.

يقول صاحب الحلل الموشية:

«ارتاعت قلوبهم، وتجلجلت أفئدتهم، ورأوا النار تشتعل في محلتهم، وأتاهم الصريخ بهلاك أموالهم، وأخبيتهم، فسُقط في أيديهم، فثَنَوْا أعنَّتهم، ورجعوا قاصدين محلتهم، فالتحمت الفئتان، واختلطت الملتان، واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك، فأمدَّ الله المسلمين بنصره، وقذف الرعب في قلوب المشركين»

ووجد ألفونسو نفسه محاصرًا من المُسْلِمِين فاضطر للقتال متقهقرًا نحو معسكره المحروق، ولكن يوسف لم يترك له الفرصة لالتقاط الأنفاس، فانقضَّ عليه كالسيل، وقاتل ألفونسو عند ذلك قتال المستميت، وكان الأمير يوسف يبث الحماس فى نفوس المُسْلِمِين قائلا ً: «يا معشر المُسْلِمِين اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين, ومن رُزِق منكم الشهادة فله الجنة ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة»، وكان رحمه الله يقاتل فى مقدمة الصفوف وهو ابن التاسعة والسبعين، وكأن العناية الإلهية كانت تحميه، وكان فقهاء المُسْلِمِين وصالحوهم يعظون الجنود ويشجعونهم على مصابرة أعداء الدِّين، وفى هذا الجو الرهيب من القتال الذى دام بضع ساعات وسقط فيه آلاف القتلى، ثم ومن بعيدٍ يُشير يوسف بن تاشفين إلى أربعة آلاف فارسٍ من رجال السودان المهرة، وهم حرسه الخاص فيترجلون عن خيولهم، ليقتحموا –فيما يشبه المهمة الخاصة- قلب جيش النصارى وينفذون إلى ملكهم، وبالفعل نفذ أربعة آلاف مقاتل إلى قلب المعمعة، واستطاع أحدهم أن يصل إلى ملك قشتالة، وأن يطعنه بخنجره في فخذه طعنة نافذة.

وغمر الدم ساحة المعركة عندما دفع الأمير حرسه الخاص من السودان إلى القتال، فترجل منهم أربعة آلاف كانوا مسلحين بدروق اللمط وسيوف الهند ونزاريق الزان.

فاندفعوا إلى المعركة اندفاع الأسود فحطموا مقاومة النصرانية، وتكسَّرت شوكتهم, وانقض أسد من أسود المُسْلِمِين على ألفونسو وطعنه فى فخذه، ولاذ النصارى بالفرار، وتمنى ألفونسو الموت على العيش, ولجأ مع خمسمائة فارس من فرسانه إلى تل قريب ينتظر الظلام لينجو من سيوف المرابطين.

ومنع يوسف جنوده من اللحاق بهم، وكانت مناسبة لألفونسو الذى تابع سيره مع الظلام إلى طُلَيْطِلَة، وصل إليها مغمومًا حزينًا كسيرًا جريحًا بعد أن فقد خيرة رجاله وجنوده وقادة جيشه.

وفقد ألفونسو فى الزِّلاقَة القسم الأعظم من جيشه، وأمر يوسف بضم رءوس القتلى من النصارى، فعمل المُسْلِمُون منها مآذن يؤذنون عليها, واستشهد فى تلك المعركة الخالدة جماعة من العلماء والفقهاء، قلما يجود الزمان بمثلهم منهم قاضى مراكش عبد الملك المصمودي، والفقيه الناسك أبو العبَّاس بن رميلة القرطبي.

وجمع المُسْلِمُون الأسلاب والغنائم التى تركها النصارى وراءهم فى ساحة المعركة، وآثر الأمير يوسف بها ملوك الأَنْدَلُس، وقد عرَّفهم أن هدفه الجهاد فى سبيل الله ونصرة الإسلام.

وأرسل الأمير يوسف إلى المغرب أخبار النصر المبين وهذا نص خطابه:

« أمَّا بعد حمدًا لله المتكفِّل بنصر أهل دينه الذى ارتضاه، والصلاة والسلام على سيدنا مُحَمَّد أفضل وأكرم خلقه، فإن العدو الطاغية لما قربنا من حماه وتوافقنا بإزائه بلغناه الدعوة، وخيرناه بين الإسلام والجزية والحرب، فاختار الحرب،...

فوقع الاتفاق بيننا وبينه على الملاقاة يوم الاثنين 15 رجب وقال: الجمعة عيد المُسْلِمِين, والسبت عيد اليهود, وفى عسكرنا منهم خلق كثير، والأحد عيدنا نحن، فافترقنا على ذلك،...

وأضمر اللعين خلاف ما شرطناه وعلمناه أنهم أهل خدع ونقض عهود فأخذنا أهبة الحرب لهم، وجعلنا عليهم العيون ليرفعوا إلينا أحوالهم، فأتتنا الأنباء فى سحر يوم الجمعة 12 رجب أن العدو قد قصد بجيوشه نحو المُسْلِمِين، يرى أنه قد اغتنم فرصته فى ذلك الحين، ...

فنبذت إليه أبطال المُسْلِمِين، وفرسان المجاهدين فتغشته قبل أن يتغشاها، وتعدَّته قبل أن يتعداها، وانقضت جيوش المُسْلِمِين على جيوشهم كانقضاض العقاب على عقيرته، ووثبت عليهم وثوب الأسد على فريسته، وقصدنا برايته السعيدة المنصورة فى سائر المشاهد مشتهرة ونظروا إلى جيوش لمتونة نحو ألفونسو –..

فلمَّا أبصر النصارى راياتنا المشتهرة المنتشرة، ونظروا إلى مراكبنا المنتظمة المظفرة، وأغشتهم بروق الصفاح, وأظلَّتهم سحائب الرماح, ونزلت بحوافر خيولهم رعود الطبول بذلك الفياح، فالتحم النصارى بطاغيتهم ألفونسو، وحملوا على المُسْلِمِين حملة منكرة؛ ...

فتلقَّاهم المرابطون بنيَّات خالصة وهمم عالية، فعصفت ريح الحرب وركبت دائم السيوف والرماح، بالطعن والضرب، وطاحت المهج وأقلبت سيل الدماء فى هرج, ونزل من سماء الله على أوليائه النصر العزيز والفرج...

وولَّى ألفونسو مطعونًا فى إحدى ركبتيه طعنة أفقدته إحدى ساقيه فى 500 فارس من ثمانين ألف فارس ومائتى ألف راجل قادهم الله على المصارع والحتف العاجل، وتخلَّص إلى جبل هنالك, ونظر النهب والنيران فى محلته من كل جانب وهو من أعلى الجبل ينظرها شذرًا، ويحيد عنها صبرًا، ولا يستطيع عنها دفعًا ولا لها نصرًا، فأخذ يدعو بالثبور والويل، ويرجو النجاة فى ظلام الليل، ...

وأمير المُسْلِمِين يحمد الله؛ قد ثبتت فى وسط المعركة مراكبه المظفرة، تحت ظلال بنوده المنتشرة منصورًا لجهاد مرفوع الأعداء، ويشكر الله تعالى على ما منحه من نيل السؤال والمراد، فقد سرح الغارات فى محلاتهم تهدم بناءها، وتصطلم ذخائرها وأسبابها، وتريه رأى العين دمارها ونهبها، ...

وألفونسو ينظر إليها نظر المغشى عليه، ويعض غيظًا وأسفًا على أنامل كفيه، فتتابعت البهرجة الفرار، رؤساء الأَنْدَلُس المهزومين نحو بطليوس والفار، فتراجعوا حذرًا من العار، ولم يثبت منهم غير زعيم الرؤساء والقوَّاد، أبو القاسم المُعْتَمِد بن عَبَّاد، فأتى أمير المُسْلِمِين وهو مهيض الجناح، مريض عنه وجراح، فهنأه بالفتح الجليل،

وتسلَّلَ ألفنش تحت الظلام فارًا لا يهدى ولا ينام ومات من الخمسمائة فارس الذين كانوا معه بالطريق أربعمائة فلم يدخل طُلَيْطِلَة إلا مائة فارس والحمد لله على ذلك كثيرًا.

وكانت هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة يوم الجمعة 12 رجب 479هـ/23 شهر أكتوبر 1086م .. العجمي

وأرسل المُعْتَمِد إلى ابنه الرشيد فى إشبيلية يزفُّ إليه البشرى بالنصر، وكان الناس بانتظار الأنباء على أحرِّ من الجمر، وقد حمل الرسالة الحمام الزاجل وهى مقتضبة إذ لا تتعدى السطرين، هذا نصها:

«اعلم أنه التقت جموع المُسْلِمِين بالطاغية ألفونسو اللعين ففتح الله للمُسْلِمِين وهزم على أيديهم المشركين والحمد لله رب العالمين، فأعلم بذلك من قبلك إخواننا المُسْلِمِين والسلام»

وقرئت الرسالة بمسجد إشبيلية فعمها السرور، ثم توالت الكتب تفيض بأخبار النصر منها إنشاء الكاتب ابن عبد الله بن عبد البر النمرى وفيه يحدد تاريخ المعركة وسيرها وما أظهره ألفونسو من الغدر والآخرة للصالحين.

وأصبح يوم الزِّلاقَة عند المغاربة والأَنْدَلُسيين مثل يوم القادسية واليرموك: «يوم لم يسمع بمثله منذ القادسية واليرموك، فياله من فتح ما كان أعظمه، يوم كبير ما كان أكرمه، فيوم الزِّلاقَة ثبتت قدم الدِّين بعد زلاقها وعادت ظلمة الحق إلى إشراقها».

تاريخ دولة المرابطين عن يوم الزلاقة يقول صاحب الحلل الموشية:- «ارتاعت قلوبهم، وتجلجلت أفئدتهم، ورأوا النار تشتعل في محلتهم، وأتاهم الصريخ بهلاك أموالهم، وأخبيتهم، فسُقط في أيديهم، فثَنَوْا أعنَّتهم، ورجعوا قاصدين محلتهم، فالتحمت الفئتان، واختلطت الملتان، واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك، فأمدَّ الله المسلمين بنصره، وقذف الرعب في قلوب المشركين»

ووجد ألفونسو نفسه محاصرًا من المُسْلِمِين فاضطر للقتال متقهقرًا نحو معسكره المحروق، ولكن يوسف لم يترك له الفرصة لالتقاط الأنفاس، فانقضَّ عليه كالسيل، وقاتل ألفونسو عند ذلك قتال المستميت،

" وتسلَّلَ ألفنش تحت الظلام فارًا لا يهدى ولا ينام ومات من الخمسمائة فارس الذين كانوا معه بالطريق أربعمائة فلم يدخل طُلَيْطِلَة إلا مائة فارس والحمد لله على ذلك كثيرًا.

وكانت هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة يوم الجمعة 12 رجب 479هـ/23 شهر أكتوبر 1086م .. العجمي ".

وأرسل المُعْتَمِد إلى ابنه الرشيد فى إشبيلية يزفُّ إليه البشرى بالنصر

«اعلم أنه التقت جموع المُسْلِمِين بالطاغية ألفونسو اللعين ففتح الله للمُسْلِمِين وهزم على أيديهم المشركين والحمد لله رب العالمين، فأعلم بذلك من قبلك إخواننا المُسْلِمِين والسلام»

كان لمعركة الزِّلاقَة نتائج مهمة

1- رفع الروح المعنوية لأهل الأَنْدَلُس,و أنقذ الله بها سقوط سَرْقُسْطَة ، وأزاح عن أهل الأندلس كابوس النصارى ومتطلباتهم التى لا تنتهى من الجزية وغيرها.

2- سقطت هيبة ملوك الطوائف أمام رعاياهم خاصَّة أنهم قد هزموا فى بدء المعركة ولولا أن أكرمهم الله بالمرابطين لضاعت الأَنْدَلُس.

3- امتناع الرعية عن دفع الضرائب المخالفة لتعاليم الإسلام وتعلُّقهم بالمرابطين.

4- مهَّدت الزِّلاقَة إلى إسقاط دول الطوائف فيما بعد على يد منقذيهم.

5- ظهور نجم يوسف بن تاشفين والمرابطين فى العالم أجمع.

6- انصياع قبائل المغرب التى كانت مترددة فى ولائها وتنتظر فرصة الوثوب على المرابطين، وبذلك تكون نتيجة معركة الزِّلاقَة أن جعلت تلك القبائل تخلد إلى السكينة وأعلنت ولاءها التام.

7- عمت الأفراح أرجاء العالم الإسلامى فى شرقه وغربه وأعتقت الرقاب وسُرَّ العلماء والفقهاء بهذا النبأ السعيد.

8- أصيب نصارى الإسبان بهزيمة تعيسة أثَّرت فى نفوسهم, وتحطمت آمالهم فى الاستيلاء على أراضى المُسْلِمِين فى الأَنْدَلُس وإبعادهم.

9- جعلت النصارى يُرتِّبون أمورهم ويوحِّدون صفوفهم, ويتنازلون عن صراعاتهم الدَّاخلِيَّة.

و بعد معركة الزِّلاقَة :

عاد الأمير يوسف بن تاشفين إلى إشبيلية، ودعا رؤساء الأَنْدَلُس إلى اجتماع عام، وطلب منهم الاتفاق والاتحاد ضد عدوهم المشترك الذى نخر فيهم بسبب اختلافهم؛ فأجابه الجميع بقبول وصيته وتحقيق رغبته، وترك ثلاثة آلاف جندى مرابطى للدفاع عن ثغور الأَنْدَلُس بقيادة سير بن أبى بكر.

عدد المؤرخون أسباب رجوع يوسف إلى المغرب وهو لم يجنِ ثمرة الانتصار بعد إلى أسباب منها:

1- وفاة ابنه الأمير أبى بكر الذى استخلفه على سبتة وكان مريضًا.

2- اضطراب الحدود الشرقية بسبب تحالف بنى حَمَّاد مع عرب بنى هلال وحاولوا غزو المناطق الحدودية التابعة للدولة المرابطية.

3- أراد أن يتفقد الولاة والحُكَّام الذين تركهم فى المُدُن والقرى، وينظر فى أمور الرعية.

4- أراد أن يخرج من إلحاح مسلمى الأَنْدَلُس الذين طلبوا منه تعقُّب ألفونسو وجنوده حيث إنه رأى إن قواته لا تستطيع أن تسيطر على كل الأَنْدَلُس لاتساع أراضيها.

5- خشى من إبراهيم بن أبى بكر بن عمر الذى زعم أنه له حق شرعى فى استخلاف والده المجاهد الكبير.

إن التاريخ الإسلامى يؤكِّد أن المعارك الفاصلة فى تاريخ أمتنا المجيد لا تكون إلا لقوم أقاموا الشريعة على مستوى الشعب والجيش والقادة، إن من أقوى الأسباب على الإطلاق فى نصر الله للمرابطين هو تمسكهم وتحكيمهم للقرآن والسنة على مستوى شعبهم ودولتهم وجيشهم وقائدهم.

الأندلـــــس بعد الزلاقــــــة

بعد رجوع يوسف بن تاشفين إلى المغرب تولى قيادة المرابطين في الأندلس القائد الميدانى سير بن أبى بكر, الذى واصل غاراته الناجحة مع أمير بطليوس على أواسط البرتغال الحالية مما يلى تاجة، وقد أثخنتْ قواتُه مع قوات المرابطين فى تلك البقاع.

كما وجَّه المُعْتَمِد بن عَبَّاد ضربات موفقة بقيادته إلى عدة مُدُن حول طُلَيْطِلَة, ثم اتجه نحو أرض مرسية، حيث استقرَّت جموع الفرسان النصارى بقيادة الكنبيطور فى أحد الحصون القريبة التى تشن غاراتها على مُدُن المسلمين, خاصة مدينة ألمرية, إلا أن المُعْتَمِد انهزم واضطرَّ أن يلتجئ إلى قلعة لورقة فى كنف واليها مُحَمَّد بن ليون, ثم توجه نحو قرطبة تاركًا مرسية لمصيرها.

وبدأت قوات النصارى تتجمع حول ألفونسو الذى أربك مُدُن شرق الأَنْدَلُس, متخذين من حِصن لييط المنيع الواقع على مسيرة يوم من لورقة مركزًا لشنِّ الغارات على أراضى المُسْلِمِين.

فلم يمض عام واحد على هزيمة ألفونسو حتى عاد نشاطه وجيشه, ونقل مقر العمليات إلى شرق الأَنْدَلُس الذى خيمت عليه الفرقة السياسية, بعكس غرب الأَنْدَلُس الذى كانت تحكمه مملكتان قويتان هما مملكة إشبيلية وبطليوس, تعضدهما فرقة من المرابطين قوامها ثلاثة آلاف رجل على رأسها القائد العظيم سير بن أبى بكر.

تأذى مسلمو شرق الأَنْدَلُس من غارات النصارى الحاقدين فتوافدت وفودهم على الأمير يوسف, وخصوصًا أهل بلنسية ومرسية ولورقة, يصفون للأمير يوسف ما نزل بهم على أيدى النصارى الذى يتحكمون فى حصن لييط.

وعبر المُعْتَمِد المجاز إلى المغرب وطلب من يوسف العبور، فاستجاب يوسف لرغبته، وتمَّ جواز يوسف إلى الجزيرة الخضراء فى ربيع الأول سنة 481هـ/ 1088م, ومن هناك كتب الأمير يوسف إلى جميع أمراء الأَنْدَلُس يدعوهم إلى الجهاد، ثم تحرَّك الأمير يوسف إلى مالقة فى صحبة أميرها تميم بن بلقين، كما لحق بهما الأمير عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة, والمعتصم بن صمادح، فضلاً عن المُعْتَمِد بن عَبَّاد، بالإضافة إلى أمراء مرسية وشقورة وبسطة وجيان، ولم يتخلف من ملوك الطوائف سوى ابن الأفطس صاحب بطليوس.

وتوجهت تلك الجموع لضرب الحصار على حصن لييط الذى كان يسكنه ألف فارس واثنا عشر ألفًا من المشاة من جنود النصارى الحاقدين أصحاب النزعة الصليبية الانتقامية، واستبسل النصارى فى الدفاع عن الحصن وكانوا يخرجون ليلاً للانقضاض على المُسْلِمِين وإلحاق الخسائر بهم.

واستمرَّ الحصار بدون جدوى وظهرت صراعات ملوك الطوائف فيما بينهم ووصلت للأمير يوسف الذى ساءه ذلك كثيرًا.

وشكى المُعْتَمِد بن عَبَّاد للأمير يوسف خروج ابن رشيق صاحب مرسية عن الطاعة ودفعه الأموال لألفونسو السادس تقربًا إليه، وظهرت المشاكل بين أبناء بلكين عبد الله وتميم للأمير يوسف، وكأن لا عمل له إلا حل المشاكل والمنازعات بين الأطراف المتنازعة.

وتضايق الأمير يوسف من خيانة ابن رشيق الذى دفع أموالاً طائلة لألفونسو, وعرض الأمر على الفقهاء والعلماء الذين أفتوا بإزاحته من حكمه وتسليمه للمُعْتَمِد، واستغاث ابن رشيق بالأمير يوسف الذى أجابه بأنَّها أَحكام الدِّين ولا يستطيع مخالفتها.

وأمر يوسف القائد سير بن أبى بكر باعتقاله وتسليمه للمُعْتَمِد مشترطًا عليه إبقائه حيًّا.

وكان لفتوى الفقهاء عند قادة المرابطين مكانة عظيمة يضعونها فوق كل اعتبار.

فرَّ جيش ابن رشيق من المعركة، ومنع الزاد على جيش المرابطين ومَن معه من الأَنْدَلُسيين الذين يحاصرون الحصن، فارتفعت الأسعار، ووقع الغلاء واضطربت الأحوال، وعندما علم ألفونسو بالخلافات التى وقعت حشد جيشًا من أجل فك الحصار عن أتباعه فى حصن لييط، فاضطرَّ الأمير يوسف إلى فك الحصار خوفًا من معركة خاسرة غير مأمونة النتائج خاصة بعد الذى رآه من حُكَّام الأَنْدَلُس وتآمرهم واتصالهم بالعدو، ورجع الأمير يوسف إلى لورقة وترك أربعة آلاف مرابطى بقيادة داود ابن عائشة للمحافظة على منطقة مرسية وبعث بجنود إلى بلنسية بقيادة مُحَمَّد بن تاشفين.

واستطاع ألفونسو الوصول للحصن وأخرج من نجا من الموت، ورأى أن لا فائدة من الاحتفاظ بالحصن, لأنَّه يتطلب حماية كبيرة معرضة لمصير سابقاتها فقرَّر إخلاءه وتدميره, واسترجع ابن عَبَّاد الحصن بعد أن أصبح أطلالاً.

لقد أيقن الأمير يوسف إن أمراء الأَنْدَلُس لا يصلحون للحكم ولا يعتمد عليهم فى جهاد، وبعد رجوع الأمير يوسف فى عام 482هـ/1089م عرض الأمر على الفقهاء والعلماء فأفتوا له بضم الأَنْدَلُس للمغرب.

وكان فقهاء وعلماء الأَنْدَلُس يؤيدون ذلك، وكذلك فقهاء وعلماء المغرب والمشرق، وأرسل الإمام الغزالى وأبو بكر الطرطوشي (*7) فتوى تؤيد عمله الجليل من أجل توحيد صفوف المُسْلِمِين.

يقول الغزالي فى شأن أمراء الطوائف: فيجب على الأمير وأشياعه قتال هؤلاء المتمردة ولا سيما وقد استنجددوا بالنصارى.

فقد أفتاه العلماء بجواز خلعهم وإزاحتهم، وبأنه فى حل مما تعهد لهم به من الإبقاء عليهم في جوازه الأول، لأنهم خانوا الله بمعاهدتهم ألفونس على محاربة المسلمين؛ وبالتالي فإن عليه أن يبادر إلى خلعهم جميعًا، فإنك إن تركتهم وأنت قادر عليهم، أغاروا بقية بلاد المسلمين إلى الروم وكنت أنت المحاسب بين يدي الله.

وكان ممن استفتى في هذا الموضوع الفقيه يوسف بن عيسى المعروف بأبي الملجوم .

وطلب القضاة والفقهاء من يوسف أن يرجع ويوحد البلاد بالقوة، لتدخل تحت الخلافة الإسلاميَّة فى بغداد.

لقد كان ملوك الطوائف يهتمون بمصالحهم الخاصة لا ينظرون إلى عزة أمتهم حتى وصفهم ابن حزم بقوله: «لو وجدوا فى اعتناق النصرانية وسيلة لتحقيق أهوائهم ومصالحهم لما ترددوا »

وكان المُسْلِمُون فى الأَنْدَلُس يتمنون أن ينضموا إلى دولة المرابطين, وعبَّر عن ذلك فقهاؤهم وعلماؤهم وبرز الفقيه القاضى ابن القلاعى «قاضى غرناطة», الذى توطدت العلاقة بينه وبين يوسف بن تاشفين منذ ذهاب أول بعثة إلى المغرب لطلب النجدة، إذ كان أحد أعضائها, وكان يرى فى الأمير يوسف صلاحًا وعدلاً وحزمًا.

حاول الأمير عبد الله ابن ملك غرناطة أن يتخلص منه فاعتقله, ثم اضطر إلى إطلاق سراحه، فهرب إلى قرطبة، ومن هناك اتصل بالأمير يوسف وأطلعه على خفايا من الأمور، وأفتى بخلع ملوك الطوائف, وتفاعل مسلمو الأَنْدَلُس مع هذه الفتوى الموفَّقَة.

دولة المرابطين

قد تُعجبك هذه المشاركات

جميع الحقوق محفوظة لـ عالم من المعلومات Premium By Raushan Design